تراث يحاكي الأصالة ويخلد الشخصيات
تقع الزاوية الطيبية ''سيدي بن عمر'' في منطقة نائية معزولة بين أراض منبسطة وجبال وعرة المسالك وسهول ووديان، وهي قرية صغيرة تابعة إداريا إلى عين الكبيرة إحدى بلديات ندرومة، وقد اختار مؤسس زاوية ''سيدي بن عمر'' الصوفي الشيخ سيدي داود هذا المكان الخالي وهذه المنطقة المعزولة حتى يكون بعيدا عن الناس، ويتمكن من السيطرة على نفسه ونوازعها، فذلها بالابتعاد عن ملذات الحياة ونعيمها قصد التقرب من الله الواحد الأحد فلا يبقى بينه وبين خالقه حجاب، حيث يتميز المكان الذي بنيت به الزاوية بخاصية تفتقر إليها المناطق الأخرى وهي عذوبة مائها، فالزاوية والمسجد يأتيهما الماء من عين تقع في أعلى الجبل، وهي عين أقرّ العارفون بالمنطقة أنها قديمة، يعود تاريخ ظهورها إلى مئات السنين.
زاوية سيدي بن عمر شيوخها ومناقبها
الزاوية تقع بالشمال الغربي لولاية تلمسان، وتبعد عن ندرومة مقر الدائرة بحوالي ثلاثة عشر كيلومترا، وعن تلمسان مقر الولاية بستة وأربعين كيلومترا، وعن الغزوات بثلاثين كيلومترا، ويحدها شمالا جبال ترارة ومرسى هنين، وجنوبا جبل فلاوسن الشامخ، وشرقا مدينة تلمسان، وغربا مدينة ندرومة، فيما يعود أصل الزاوية إلى ذرّية السيدة فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنها ـ بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زوجة الإمام على كرم الله وجهه، ويرجع الفضل في تأسيس هذه الزاوية المباركة إلى الصوفي الجليل الشيخ سيدي داود الإبن الحادي عشر لمؤسس مدينة فاس المولى إدريس الثاني، ولم يعثر لحدّ الآن على مصدر أومرجع يؤرخ لميلاد أو وفاة الشيخ سيدي داود، ولعل ذلك يعود إلى تغافل أحفاده عن تدوين تاريخ هذا القطب، وما نعرفه عنه أنه هاجر من مدينة فاس واستقر بجبال ترارة المعروفة بطابعها الصخري الصلب، ومكانها الموحش، ومسالكها الوعرة. لقد اختار الولي الصالح سيدي داود هذا المكان المنزوي رغبة في التدبر والتفكر والتجرد، فقد ثبت في الحديث النبوي الشريف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في أول أمره قبل النبوة يتدبر في غار حراء، وبهذه البقعة المباركة من أرض الله كان ظهور أسرة أولاد سيدي بن عمر. وعن المسلك الصوفي الذي نهجته الأسرة في بداية الأمر تشير بعض المصادر التي اهتمت بتاريخ زاوية سيدي بن عمر إلى أن شيوخ هذه الزاوية المباركة ساروا على الطريقة القادرية المنسوبة إلى الولي الصالح مولاي عبد القادر الجيلاني المولود بقرية جيلان الواقعة على ضفة بحر قزوين عام 1075م والمتوفى عام 1165م بمدينة بغداد، حيث يوجد ضريحه المقصود من الزوار من كل حدب وصوب، وفي عام 1027هـ/1618م نهجت أسرة سيدي بن عمر منهج دار الضمانة بوزان المغربية التي كان على رأس مشيختها مولاي عبد الله الشريف الوزاني، وهذا ما يؤكده شيوخ زاوية سيدي بن عمر بالتواتر. يبدأ تاريخ زاوية سيدي بن عمرو قبل سنة 1104هـ/1690م، وهو تاريخ وفاة الشيخ سيدي محمد بن عمر أول جدّ لهذه الأسرة الكريمة، وعرف عن هذا الرجل أنه كان صوفيا من أولياء الله، ودامت ولايته لهذه الزاوية حوالي سبعين سنة، وكان في هذه الفترة متمسكا بنهج أبيه الشيخ سيدي داود، وبعد وفاة سيدي محمد بن عمر انتقلت المشيخة إلى ابنه الشيخ سيدي محمد الذي تولى القيام بشؤون الزاوية مدة ستين سنة، وكانت وفاته حوالي 1161هـ/1748م، وفي عهده توسعت رقعة
الأراضي المحيطة بالزاوية وكثرت المحاصيل الزراعية وتنوعت، فذاع صيت الزاوية وأصبحت مزارا يقصدها الناس من أماكن بعيدة للتبرك، ويأتي بعد هذين القطبين الشيخ الحاج محمد بن عمر ابن الشيخ سيدي محمد وحفيد الشيخ سيدي محمد بن عمر ودامت مشيخته لهذه الزاوية مدة ستة وأربعين سنة وتوفي رحمه الله بمكة وبها دفن سنة 1209هـ/1794م، وقبل السفر إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج ودع أهله من لا يأمل في العودة إلى البلد، وأخبرهم بأنه سيلتحق بالرفيق الأعلى في تلك الأرض الطاهرة، وعيّن ابنه سيدي الحاج محمد العالم خليفة له على مشيخة الزاوية، وعاش الأقطاب الثلاثة ونعني بهم سيدي محمد بن عمر وبسيدي محمد والحاج محمد بن عمر في عهد الأتراك.
ويعتبر الشيخ سيدي الحاج محمد العالم حلقة وصل بين الشيوخ الذين عاشوا في عهد الأتراك والشيوخ الذين عاشوا في عهد الإحتلال الفرنسي.
في العام 1209هـ/1794م تولى مشيخة الزواية الشيخ سيدي الحاج محمد العالم ودامت مشخيته لزاوية ''سيدي بن عمر'' مدة تزيد على الثمانين سنة، وعرف هذا الرجل الصالح بحبه لطلب العلم، وهذا ما حفزه على السفر إلى مدينة ''مازونة'' التي تتلمذ بها على يد عالمها الشهير آنذاك الشيخ الحاج محمد بوراس الكبير، وفي فترة مشيخته طلب منه أخوه الحاج أحمد الانفصال عن الزاوية واقتسام تركة أبيهما وكان له ما أراد، وبذلك وقع الانفصال في الأسرة، وكون الحاج أحمد مع أحفاده قبيلة أولاد بن داود ويسمّون أيضا بـ ''أولاد سيدي بن عمر التحاتة''. اتهمت السلطات الاستعمارية الفرنسية الشيخ سيدي محمد العالم بالتواطؤ مع قبيلة بني يزناسن المغربية الثائرة ضد الحكم الفرنسي وبتموين ثورة الأمير عبد القادر فأبعدته إلى مدينة قسنطينة وقضى في السجن سنتين كاملتين أفرج عنه بعد ذلك وعاد إلى الزاوية، حيث توفي رحمه الله سنة 1293هـ/1876م مخلفا خمسة أولاد، هم: سيدي المصطفى وسيدي المنور وسيدي عبد السلام وسيدي الدريوش وسيدي الحاج بن عبد الله، وبعد هذه الفترة تولى شؤون الزاوية الشيوخ الذين عاشوا في عهد الاحتلال الفرنسي وكان أولهم الشيخ سيدي المصطفى الذي خلف والده الشيخ سيدي محمد العالم على رأس الزاوية تولى هذا الرجل الصالح المشيخة مدة ثلاثين سنة اهتم خلالها بتوطيد أسس الزاوية وتقوية نشاطها، وتوفي رحمه الله سنة 1324هـ/1906م.
يتولى الزاوية ويكسب قلوب أهل ندرومة
في سنة 1324هـ/1906م تولى مشيخة الزاوية الشيخ سيدي الدريوش خلفا لأخيه الشيخ سيدي المصطفى ودامت مشيخته لزاوية سيدي بن عمرو مدة أربعة عشر سنة، وعرف عن هذا الشيخ قدرته الفائقة في شفاء المرضى وحسن معاملته للناس غنيهم وفقيرهم، ومع سنة 1912م ثار أهالي ندرومة وضواحيها على السلطات الاستعمارية، ويعود سبب هذه الثورة إلى رفض الأهالي قانون التجنيد الإجباري على شباب المنطقة، ولم تخمد هذه الثورة إلا بعد تدخل الشيخ سيدي الدريوش الذي استطاع بحكمته امتصاص غضب الأهالي وإقناعهم بالعودة إلى ديارهم وترك هيئة الجيش تقوم بعملها، وفي سنة 1339هـ/1920م توفي الشيخ سيدي الدريوش وخلفه في القيام بشؤون الزاوية الشيخ سيدي بن عمر ولد مصطفى، ودامت مشيخته للزاوية مدة اثنين وعشرين سنة، وعرف عن هذا الشيخ أنه كان رجلا تقيا يدير شؤون الزاوية نهارا ويقرأ القرآن ليلا، وفي سنة 1940م نزل بالزاوية جماعة من سكان مدينة الغزوات الساحلية وقصدوا الشيخ سيدي بن عمر ولد مصطفى وهم في حالة من القلق ليعبروا له عما يلحق بمدينتهم من جراء القصف الجوي، فطلب منهم الشيخ وضع حواجز رملية فوق سطوح منازلهم حتى يتمكنوا من تجنب الحرائق الناجمة عن القذائف التي كانت تطلقها الطائرات الحربية، واستطاع بذلك أن يهدئ من روعهم ويعيد الثقة إلى نفوسهم مؤكدا أن العدو الفرنسي لا يستطيع تدمير أراضيهم والإقامة بها.
الزاوية وتداول الخلافة عليها
وتوفي رحمه الله سنة 1361هـ/1942م، وبعد وفاة الشيخ سيدي بن عمر ولد مصطفى تولى مشيخة الزاوية ابن أخيه سيدي مولاي علي ولد سيدي العربي ودامت مشيخته لزاوية سيدي بن عمر مدة سبع وعشرين سنة، حيث لعبت في عهده الزاوية دورا كبيرا في تحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الدينية بحكم أنه ولد بها سنة 1898م، ومن فضائله فتحه باب الحج إلى بيت الله الحرام لأفراد هذه الأسرة الشريفة بعدما انقطعت مدة من الزمن، وأدى فريضة الحج مرتين بصحبة ابنه الأكبر الحاج أمحمد، وفي طريق رجوعهما من الحجة الثانية عرجا على بيت المقدس، كما لعب الشيخ سيدي مولاي علي دورا بارزا في الثورة التحريرية المباركة، وتمثل دوره في تموين المجاهدين الذين كانوا يعملون تحت قيادة عباس وبعثمان ورضوان والوهراني ونعناع، وتوفي رحمه الله سنة 1389هـ/1969م، تاركا السرّ بعده لولديه الحاج امحمد وسيدي بن عمر.
تولى الشيخ سيدي بن عمر ولد الشيخ سيدي مولاي علي والأخ الأصغر للشيخ الحاج امحمد مشيخة زاوية حمام بوغرارة الفرع وبقي يرعى شؤونها حتى وفاته سنة 1986م، وقبل وفاته طلب من أخيه الشيخ الحاج امحمد شيخ الزاوية الأصل أن يقبل بتعيين ابنه الشيخ سيدي عبد العزيز على رأس زاوية حمام بوغرارة ويسمح له بمداواة المرضى، ولا يزال هذا الشاب المفعم بالحيوية والنشاط يدير شؤون الزاوية إلى يومنا هذا.
لزاوية ''سيدي بن عمرو'' مناقب عديدة يمكن تلخيصها فيمايلي:
1) معالجة داء ''عرق النسا'' ''Siatique '' وهو عرق ممتد من مفصل الورك وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب، فإذا أصيب العرق بالتشنج أو الانقباض أحسّ المريض بألم شديد وتوقف عن الحركة وفي بعض الحالات تعذر المشي فلزم الفراش.
انتقلت الحكمة في معالجة هذا الداء إلى شيوخ زاوية سيدي بن عمر عن طريق الحاج بن عمار البطيوي أحد شيوخ وحكماء قبيلة أولاد فاضل والذي عرف بين أفراد قبيلته بمعالجة المصابين بداء ''عرق النسا''، لمّا أحس الحاج بن عمار البطيوي بدنو أجله استدعى شيخ زاوية سيدي بن عمر آنذاك السي محمد بن عمر وباح له بسر العلاج، وقد اختاره من بين شيوخ الزوايا ليمنحه هذه الحكمة وذلك لثقته به، ولقدرته على تحمل هذه المسؤولية، وشهرته بين الناس.
وتكمن طريقة العلاج من هذا الداء في أن يأخذ الشيخ سلكا نحاسيا رقيقا أصفر ويتلو سرّا بعض الأدعية المباركة، ثم يدخله في وتدة الأذن، ويفتح ثقبا يمرر فيه السلك ويربطه على شكل حلقة، ويطلب من المريض تحريك السلك مرات عديدة ليلا ونهارا بإبهامه وسبابته، فيشفى بإذن الله، وفي بعض الأحيان يطلب الشيخ من المريض الامتناع عن الاستحمام، وتجنب وضع الماء على السلك المعدني، ويوصيه بعدم نزعه لأنه يسقط وحده بعد أن يتم شفاء المريض. 2) معالجة لسعة الأفاعي والحيات ولدغة العقارب والحشرات، وقبل التعرف على طريقة العلاج نشير إلى أن أفراد عائلة سيدي بن عمر محصنون من سموم الحيوانات الضارة، ولعلاج المصاب يقدم له شيخ الزاوية إناء أو كأسا مليئا بالماء ويطلب منه أن يشرب ذلك الماء ولكن بعد أن يكون الشيخ قد قرأ عليه آيات من القرآن الكريم وتلا أدعية مباركة، ومن شروط التداوي أن يأتي المصاب إلى الشيخ بعد فترة معينة من يوم إصابته فيكتب الشيخ على الإناء عددا من الأدعية ثم يمحو ما كتبه بماء ويطلب من الملسوع أن يشرب ذلك الماء فيشفى بإذن الله، وما يلاحظ في طريقة العلاج هذه أنه لا يشترط حضور المصاب، بل يكتفي أهله ببعث أحد أقاربه الذي تربطه قرابة دموية لأن العلاج ينتقل من جسد صحيح الكيان إلى جسد المصاب.
3) الصلح بين المتخاصمين والتأليف بين قلوب المتنازعين، حيث لا يتمثل دور شيوخ زاوية سيدي بن عمر في علاج بعض الأمراض، بل يتعداه إلى عقد الصلح بين القبائل المتناحرة فيما بينها، وإزالة الحقد من قلوب المتخاصمين والتأليف بينهم، وقد تمكن شيوخ الزاوية بفضل ما حبّاهم به الله تعالى من حكمة ورجاحة عقل من تبديد العداوات بين القبائل، وجمع شمل الأسر بعد أن فرقت بينها الخصومات.
4) تحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الإسلامية، إذ لعب شيوخ زاوية ''سيدي بن عمر'' دورا مهما في نشر الثقافة العربية الإسلامية وتمثل هذا الدور في تعليم الناس القرآن الكريم، والدعوة إلى إتباع سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجد بالزاوية كتاب قديم يرتل فيه القرآن الكريم والحزب الراتب صباح مساء. كما يجد الطلبة المسافرون في هذا الكتّاب كل ما يحتاجون إليه لأن الزاوية تتكفل بإطعامهم وإيوائهم، ولا يكتفي الطلبة بحفظ القرآن الكريم بل يتلقون دروسا في العلوم اللغوية والفقهية، ومن الكتب المقررة عليهم نجد منظومات ومصنفات في مختلف العلوم.
منقوووووووووووووووووووووول
أبو بكر علاء الدين