بسم الله الرحمان الرحيم
موضوعنا اليوم يتمحور حول أسماء النبي صلوات الله و سلامه عليه فأرجو أن تنال إعجابكم
فَصْلٌ
فِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكُلُّهَا نُعُوتٌ لَيْسَتْ أَعْلَامًا مَحْضَةً لِمُجَرَّدِ التَّعْرِيفِ ، بَلْ أَسْمَاءٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " - ص 85 -" صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَدْحَ وَالْكَمَالَ .
فَمِنْهَا مُحَمَّدٌ ، وَهُوَ أَشْهَرُهَا ، وَبِهِ سُمِّيَ فِي التَّوْرَاةِ صَرِيحًا كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ فِي كِتَابِ " جَلَاءِ الْأَفْهَامِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ " وَهُوَ كِتَابٌ فَرْدٌ فِي مَعْنَاهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ فِي كَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَغَزَارَتِهَا ، بَيَّنَّا فِيهِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ ، وَصَحِيحَهَا مِنْ حَسَنِهَا وَمَعْلُولِهَا ، وَبَيَّنَّا مَا فِي مَعْلُولِهَا مِنَ الْعِلَلِ بَيَانًا شَافِيًا ، ثُمَّ أَسْرَارَ هَذَا الدُّعَاءِ وَشَرَفِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ ، ثُمَّ مُوَاطِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَمُحَالَّهَا ، ثُمَّ الْكَلَامَ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا ، وَاخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ وَتَرْجِيحَ الرَّاجِحِ وَتَزْيِيفَ الْمُزَيَّفِ ، وَمَخْبَرُ الْكِتَابِ فَوْقَ وَصْفِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ فِي التَّوْرَاةِ صَرِيحًا بِمَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ كُلُّ عَالِمٍ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَمِنْهَا أَحْمَدُ ، وَهُوَ الِاسْمُ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ الْمَسِيحُ لِسِرٍّ ذَكَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ .
وَمِنْهَا : الْمُتَوَكِّلُ ، وَمِنْهَا الْمَاحِي ، وَالْحَاشِرُ ، وَالْعَاقِبُ ، وَالْمُقَفِّي ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ، وَالْفَاتِحُ ، وَالْأَمِينُ .
وَيَلْحَقُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ : الشَّاهِدُ ، وَالْمُبَشِّرُ ، وَالْبَشِيرُ ، وَالنَّذِيرُ ، وَالْقَاسِمُ ، وَالضَّحُوكُ ، وَالْقَتَّالُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ، وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ ، وَصَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ إِذَا كَانَتْ أَوْصَافَ مَدْحٍ فَلَهُ مِنْ كُلِّ وَصْفٍ اسْمٌ ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُخْتَصِّ بِهِ أَوِ الْغَالِبِ عَلَيْهِ وَيُشْتَقُّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ ، وَبَيْنَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ يَخُصُّهُ .
" - ص 86 -" وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ : سَمَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ أَسْمَاءً ، فَقَالَ : ( : أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ ) .
وَأَسْمَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : خَاصٌّ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ ، كَمُحَمَّدٍ ، وَأَحْمَدَ ، وَالْعَاقِبِ ، وَالْحَاشِرِ ، وَالْمُقَفِّي ، وَنَبِيِّ الْمَلْحَمَةِ .
وَالثَّانِي : مَا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ وَلَكِنْ لَهُ مِنْهُ كَمَالُهُ ، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِكَمَالِهِ دُونَ أَصْلِهِ ، كَرَسُولِ اللَّهِ ، وَنَبِيِّهِ ، وَعَبْدِهِ ، وَالشَّاهِدِ ، وَالْمُبَشِّرِ ، وَالنَّذِيرِ ، وَنَبِيِّ الرَّحْمَةِ ، وَنَبِيِّ التَّوْبَةِ .
وَأَمَّا إِنْ جُعِلَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ اسْمٌ تَجَاوَزَتْ أَسْمَاؤُهُ الْمِائَتَيْنِ ، كَالصَّادِقِ ، وَالْمَصْدُوقِ ، وَالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَفِي هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ النَّاسِ : إِنَّ لِلَّهِ أَلْفُ اسْمٍ ، وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفُ اسْمٍ ، قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ ، وَمَقْصُودُهُ الْأَوْصَافُ .
أَمَّا مُحَمَّدٌ ، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَمِدَ فَهُوَ مُحَمَّدٌ ، إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ مِنْ مَحْمُودٍ ، فَإِنَّ مَحْمُودًا مِنَ الثَّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْمُضَاعَفِ لِلْمُبَالَغَةِ ، فَهُوَ الَّذِي يُحْمَدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِنَ الْبَشَرِ ، وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - سُمِّيَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لِكَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا هُوَ وَدِينُهُ وَأُمَّتُهُ فِي التَّوْرَاةِ ، حَتَّى تَمَنَّى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ هُنَاكَ ، وَبَيَّنَّا غَلَطَ أبي القاسم السهيلي حَيْثُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ ، وَأَنَّ اسْمَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَحْمَدُ .
وَأَمَّا أَحْمَدُ ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُشْتَقٌّ أَيْضًا مِنَ الْحَمْدِ . وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ ، أَيْ حَمْدُهُ لِلَّهِ أَكْثَرُ مِنْ حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ ، فَمَعْنَاهُ : أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ ، وَرَجَّحُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ قِيَاسَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنْ يُصَاغَ مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ لَا مِنَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، قَالُوا : وَلِهَذَا لَا يُقَالُ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا ، وَلَا زَيْدٌ أَضْرَبُ مِنْ عَمْرٍو ، بِاعْتِبَارِ الضَّرْبِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ ، وَلَا : مَا أَشْرَبَهُ لِلْمَاءِ ، وَآكَلَهُ " - ص 88 -" لِلْخُبْزِ ، وَنَحْوِهِ ، قَالُوا : لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَفِعْلَ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا يُصَاغَانِ مِنَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ ، وَلِهَذَا يُقَدَّرُ نَقْلُهُ مِنْ " فَعَلَ " وَ" فَعِلَ " الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ وَمَكْسُورِهَا ، إِلَى " فَعُلَ " الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ ، قَالُوا : وَلِهَذَا يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ ، فَهَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ ، كَقَوْلِكَ : مَا أَظْرَفَ زَيْدًا ، وَأَكْرَمَ عَمْرًا ، وَأَصْلُهُمَا : مِنْ ظَرُفَ وَكَرُمَ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمُتَعَجَّبَ مِنْهُ فَاعِلٌ فِي الْأَصْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ، قَالُوا : وَأَمَّا نَحْوُ : مَا أَضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو ، فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ " فَعَلَ " الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ إِلَى " فَعُلَ " الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ ، ثُمَّ عُدِّيَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِالْهَمْزَةِ ، قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَجِيئُهُمْ بِاللَّامِ ، فَيَقُولُونَ : مَا أَضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو ، وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى تَعَدِّيهِ ، لَقِيلَ : مَا أَضْرَبَ زَيْدًا عَمْرًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ ، وَإِلَى الْآخَرِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ ، فَلَمَّا أَنْ عَدَّوْهُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَدَّوْهُ إِلَى الْآخَرِ بِاللَّامِ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ أَنْ قَالُوا : إِنَّهُمَا لَا يُصَاغَانِ إِلَّا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ ، لَا مِنَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ .
وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ ، وَقَالُوا : يَجُوزُ صَوْغُهُمَا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ ، وَمِنَ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، وَكَثْرَةُ السَّمَاعِ بِهِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : مَا أَشْغَلَهُ بِالشَّيْءِ ، وَهُوَ مِنْ شُغِلَ فَهُوَ مَشْغُولٌ ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ مَا أَوْلَعَهُ بِكَذَا ، وَهُوَ مِنْ أُولِعَ بِالشَّيْءِ فَهُوَ مُولَعٌ بِهِ ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ لَيْسَ إِلَّا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : مَا أَعْجَبَهُ بِكَذَا ، فَهُوَ مِنْ أُعْجِبَ بِهِ ، وَيَقُولُونَ مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ فَهُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ ، وَكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَكُ ، وَكَذَا : مَا أَبْغَضَهُ إِلَيَّ ، وَأَمْقَتَهُ إِلَيَّ .
وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ ، وَهِيَ أَنَّكَ تَقُولُ : مَا أَبْغَضَنِي لَهُ ، وَمَا أَحَبَّنِي لَهُ ، وَمَا أَمْقَتَنِي لَهُ : إِذَا كُنْتَ أَنْتَ الْمُبْغِضَ الْكَارِهَ ، وَالْمُحِبَّ الْمَاقِتَ ، فَتَكُونُ مُتَعَجِّبًا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ ، وَتَقُولُ : مَا أَبْغَضنِي إِلَيْهِ ، وَمَا أَمْقَتَنِي إِلَيْهِ ، وَمَا أَحَبَّنِي إِلَيْهِ : إِذَا كُنْتَ أَنْتَ الْبَغِيضُ الْمَمْقُوتُ ، أَوِ الْمَحْبُوبُ ، فَتَكُونُ مُتَعَجِّبًا مِنَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، فَمَا كَانَ بِاللَّامِ فَهُوَ لِلْفَاعِلِ ، وَمَا كَانَ بِـ " إِلَى " فَهُوَ لِلْمَفْعُولِ . وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ لَا يُعَلِّلُونَ بِهَذَا ، وَالَّذِي يُقَالُ فِي عِلَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ : إِنَّ اللَّامَ " - ص 89 -" تَكُونُ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَعْنَى ، نَحْوُ قَوْلِكَ : لِمَنْ هَذَا ؟ فَيُقَالُ : لِزَيْدٍ ، فَيُؤْتَى بِاللَّامِ . وَأَمَّا " إِلَى " فَتَكُونُ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى ، فَتَقُولُ : إِلَى مَنْ يَصِلُ هَذَا الْكِتَابُ ؟ فَتَقُولُ : إِلَى عَبْدِ اللَّهِ ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ فِي الْأَصْلِ لِلْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْفَاعِلِ الَّذِي يَمْلِكُ وَيَسْتَحِقُّ ، وَ" إِلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، وَالْغَايَةُ مُنْتَهَى مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْلُ فَهِيَ بِالْمَفْعُولِ أَلْيَقُ ؛ لِأَنَّهَا تَمَامُ مُقْتَضَى الْفِعْلِ ، وَمِنَ التَّعَجُّبِ مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ قَوْلُ كعب بن زهير فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ وَقِيلَ إِنَّكَ مَحْبُوسٌ وَمَقْتُولُ
مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنُهُ بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
فَأَخْوَفُ هَاهُنَا ، مِنْ خِيفَ فَهُوَ مَخُوفٌ لَا مِنْ خَافَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : مَا أَجَنَّ زَيْدًا ، مِنْ جُنَّ فَهُوَ مَجْنُونٌ ، هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ .
قَالَ الْبَصْرِيُّونَ : كُلُّ هَذَا شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، فَلَا نُشَوِّشُ بِهِ الْقَوَاعِدَ ، وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى الْمَسْمُوعِ ، قَالَ الْكُوفِيُّونَ : كَثْرَةُ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَنَظْمًا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الشُّذُوذِ ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَا خَالَفَ اسْتِعْمَالَهُمْ وَمُطَّرِدَ كَلَامِهِمْ ، وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ ، قَالُوا : وَأَمَّا تَقْدِيرُكُمْ لُزُومَ الْفِعْلِ وَنَقْلَهُ إِلَى فَعُلَ فَتَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَمَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ مِنَ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهَا كَمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ ، وَالْهَمْزَةُ فِي هَذَا الْبِنَاءِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّفْضِيلِ فَقَطْ ، كَأَلِفِ " فَاعِلٍ " وَمِيمِ " مَفْعُولٍ " وَوَاوِهُ وَتَاءِ الِافْتِعَالِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الزَّوَائِدِ الَّتِي تَلْحَقُ الْفِعْلَ الثَّلَاثِيَّ لِبَيَانِ مَا لَحِقَهُ مِنَ الزَّيَادَةِ عَلَى مُجَرَّدِهِ ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْجَالِبُ لِهَذِهِ الْهَمْزَةِ لَا تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ .
قَالُوا : وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّى " - ص 90 -" بِحَرْفِ الْجَرِّ وَبِالتَّضْعِيفِ ، نَحْوُ : جَلَسْتُ بِهِ وَأَجْلَسْتُهُ وَقُمْتُ بِهِ وَأَقَمْتُهُ ، وَنَظَائِرِهِ ، وَهُنَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْهَمْزَةِ غَيْرُهَا ،فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ الْمُجَرَّدَةِ أَيْضًا ، فَإِنَّهَا تُجَامِعُ بَاءَ التَّعْدِيَةِ ، نَحْوُ : أَكْرِمْ بِهِ وَأَحْسِنْ بِهِ ، وَلَا يُجْمَعُ عَلَى الْفِعْلِ بَيْنَ تَعْدِيَتَيْنِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : مَا أَعْطَاهُ لِلدَّرَاهِمِ ، وَأَكْسَاهُ لِلثِّيَابِ ، وَهَذَا مِنْ أَعْطَى وَكَسَا الْمُتَعَدِّي ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ نَقْلِهِ إِلَى " عَطَوَ " : إِذَا تَنَاوَلَ ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ التَّعَجُّبَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ إِعْطَائِهِ ، لَا مِنْ عَطْوِهِ وَهُوَ تَنَاوُلُهُ ، وَالْهَمْزَةُ الَّتِي فِيهِ هَمْزَةُ التَّعَجُّبِ وَالتَّفْضِيلِ ، وَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ الَّتِي فِي فِعْلِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ عُدِّيَ بِاللَّامِ فِي نَحْوِ : مَا أَضْرَبَهُ لِزَيْدٍ . . . إِلَى آخِرِهِ ، فَالْإِتْيَانُ بِاللَّامِ هَاهُنَا لَيْسَ لِمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ لُزُومِ الْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهَا تَقْوِيَةً لَهُ لَمَّا ضَعُفَ بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ ، وَأُلْزِمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً خَرَجَ بِهَا عَنْ سُنَنِ الْأَفْعَالِ ، فَضَعُفَ عَنِ اقْتِضَائِهِ وَعَمَلِهِ ، فَقَوِيَ بِاللَّامِ كَمَا يَقْوَى بِهَا عِنْدَ تَقَدُّمِ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ فَرْعِيَّتِهِ ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا تَرَاهُ .
فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ : تَقْدِيرُ أَحْمَدَ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ : أَحْمَدُ النَّاسِ لِرَبِّهِ ، وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ : أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِأَنْ يُحْمَدَ ، فَيَكُونُ كَمُحَمَّدٍ فِي الْمَعْنَى ، إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ " مُحَمَّدًا " هُوَ كَثِيرُ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا ، وَ" أَحْمَدُ " هُوَ الَّذِي يُحْمَدُ أَفْضَلَ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ ، فَمُحَمَّدٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْكَمِّيَّةِ ، وَأَحْمَدُ فِي الصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ ، فَيَسْتَحِقُّ مِنَ الْحَمْدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ ، وَأَفْضَلَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ ، فَيُحْمَدُ أَكْثَرَ حَمْدٍ وَأَفْضَلَ حَمْدٍ حَمِدَهُ الْبَشَرُ . فَالِاسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي مَدْحِهِ وَأَكْمَلُ مَعْنًى . وَلَوْ أُرِيدَ مَعْنَى الْفَاعِلِ لَسُمِّيَ الْحَمَّادَ ، أَيْ كَثِيرَ الْحَمْدِ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ حَمْدًا لِرَبِّهِ ، فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَدَ بِاعْتِبَارِ حَمْدِهِ لِرَبِّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الْحَمَّادَ كَمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ إِنَّمَا اشْتُقَّا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَخَصَائِصِهِ " - ص 91 -" الْمَحْمُودَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَحْمَدُ وَهُوَ الَّذِي يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ الدُّنْيَا وَأَهْلُ الْآخِرَةُ ؛ لِكَثْرَةِ خَصَائِلِهِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي تَفُوقُ عَدَّ الْعَادِّينَ وَإِحْصَاءَ الْمُحْصِينَ ، وَقَدْ أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا كَلِمَاتٍ يَسِيرَةً اقْتَضَتْهَا حَالُ الْمُسَافِرِ وَتَشَتُّتُ قَلْبِهِ وَتَفَرُّقُ هِمَّتِهِ ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التَّكْلَانُ .
وَأَمَّا اسْمُهُ الْمُتَوَكِّلُ ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ( عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، عَبْدِي وَرَسُولِي ، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ ، بِأَنْ يَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ تَوَكُّلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا الْمَاحِي ، وَالْحَاشِرُ ، وَالْمُقَفِّي ، وَالْعَاقِبُ ، فَقَدْ فُسِّرَتْ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، فَالْمَاحِي : هُوَ الَّذِي مَحَا اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ، وَلَمْ يَمْحُ الْكُفْرَ بِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مَا مُحِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ بُعِثَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَهُمْ مَا بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَيَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَنَصَارَى ضَالِّينَ وَصَابِئَةٍ دَهْرِيَّةٍ لَا يَعْرِفُونَ رَبًّا وَلَا مَعَادًا ، وَبَيْنَ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ ، وَعُبَّادِ النَّارِ ، وَفَلَاسِفَةٍ لَا يَعْرِفُونَ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا ، فَمَحَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ " - ص 92 -" بِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ ، وَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَسَارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ .
وَأَمَّا الْحَاشِرُ ، فَالْحَشْرُ هُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، فَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ ، فَكَأَنَّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ النَّاسُ .
وَالْعَاقِبُ : الَّذِي جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ ، فَإِنَّ الْعَاقِبَ هُوَ الْآخِرُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْعَاقِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، أَيْ : عَقِبَ الْأَنْبِيَاءَ جَاءَ بِعَقِبِهِمْ .
وَأَمَّا الْمُقَفِّي فَكَذَلِكَ ، وَهُوَ الَّذِي قَفَّى عَلَى آثَارِ مَنْ تَقَدَّمَهُ ، فَقَفَّى اللَّهُ بِهِ عَلَى آثَارِ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ الرُّسُلِ ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَفْوِ ، يُقَالُ : قَفَاهُ يَقْفُوهُ : إِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَمِنْهُ : قَافِيَةُ الرَّأْسِ ، وَقَافِيَةُ الْبَيْتِ ، فَالْمُقَفِّي : الَّذِي قَفَّى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَكَانَ خَاتَمَهُمْ وَآخِرَهُمْ .
وَأَمَّا نَبِيُّ التَّوْبَةِ : فَهُوَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ بَابَ التَّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَوْبَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ قَبْلَهُ . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ النَّاسِ اسْتِغْفَارًا وَتَوْبَةً ، حَتَّى كَانُوا يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ ) .
وَكَانَ يَقُولُ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) ، وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ أُمَّتِهِ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَأَسْرَعُ " - ص 93 -" قَبُولًا وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا ، وَكَانَتْ تَوْبَةُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ ، حَتَّى كَانَ مِنْ تَوْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلِكَرَامَتِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتَهَا النَّدَمَ وَالْإِقْلَاعَ .
وَأَمَّا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ، فَهُوَ الَّذِي بُعِثَ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ ، فَلَمْ يُجَاهِدْ نَبِيٌّ وَأُمَّتُهُ قَطُّ مَا جَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ ، وَالْمَلَاحِمُ الْكِبَارُ الَّتِي وَقَعَتْ وَتَقَعُ بَيْنَ أُمَّتِهِ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا قَبْلَهُ ، فَإِنَّ أُمَّتَهُ يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ ، وَقَدْ أَوْقَعُوا بِهِمْ مِنَ الْمَلَاحِمِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ أُمَّةٌ سِوَاهُمْ .
وَأَمَّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، فَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، فَرُحِمَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَنَالُوا النَّصِيبَ الْأَوْفَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ عَاشُوا فِي ظِلِّهِ وَتَحْتَ حَبْلِهِ وَعَهْدِهِ ، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَأُمَّتُهُ فَإِنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ إِلَى النَّارِ وَأَرَاحُوهُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا إِلَّا شِدَّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ .
وَأَمَّا الْفَاتِحُ ، فَهُوَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ بَابَ الْهُدَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرْتَجًا ، وَفَتَحَ بِهِ الْأَعْيُنَ الْعُمْيَ وَالْآذَانَ الصُّمَّ وَالْقُلُوبَ الْغُلْفَ ، وَفَتَحَ اللَّهُ بِهِ أَمْصَارَ الْكُفَّارِ ، وَفَتَحَ بِهِ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ، وَفَتَحَ بِهِ طُرُقَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَفَتَحَ بِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَمْصَارَ .
وَأَمَّا الْأَمِينُ ، فَهُوَ أَحَقُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الِاسْمِ ، فَهُوَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى وَحْيِهِ وَدِينِهِ ، وَهُوَ أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ الْأَمِينَ .
وَأَمَّا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ ، فَاسْمَانِ مُزْدَوِجَانِ لَا يُفْرَدُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ ، " - ص 94 -" فَإِنَّهُ ضَحُوكٌ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ عَابِسٍ وَلَا مُقَطِّبٍ وَلَا غَضُوبٍ وَلَا فَظٍّ ، قَتَّالٌ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ .
وَأَمَّا الْبَشِيرُ ، فَهُوَ الْمُبَشِّرُ لِمَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ ، وَالنَّذِيرُ الْمُنْذِرُ لِمَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ عَبْدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مِنْهَا ، قَوْلُهُ : ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ) [ الْجِنِّ : 20 ] وَقَوْلُهُ : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [ الْفُرْقَانِ : 1 ] وَقَوْلُهُ : ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) [ النَّجْمِ : 10 ] وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ) [ الْبَقَرَةِ : 23 ] وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ [ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] وَلَا فَخْرَ ) وَسَمَّاهُ اللَّهُ سِرَاجًا مُنِيرًا ، وَسَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا وَهَّاجًا .
وَالْمُنِيرُ : هُوَ الَّذِي يُنِيرُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاقٍ ، بِخِلَافِ الْوَهَّاجِ فَإِنَّ فِيهِ نَوْعُ إِحْرَاقٍ وَتَوَهُّجٍ .
و في الأخير لا أطلب شيئا غير الدعاء لي ولوالدي و لجميع المسلمين